المساعي الإنسانية – الرغبة في الخير – فيكتور غولدشميت
ترجمة لمقالة معنونة ب “الطموحات الإنسانية – الرغبة في الخير”، من كتاب “دين أفلاطون” للفيلسوف الفرنسي المعاصر فيكتور غولدشميت
كل إنسان يرغب دائما في أن يكون سعيداً. لكن عندما يتعلق الأمر بمعرفة الحقيقة، فلا أحد يخشى الخطأ بنفس الحماس الذي يخشى به الشر. بل أكثر من هذا، فنحن نأنف1 عندما يدعي الفيلسوف أنه هو وحده يمتلك حقيقة ليس لنا إلا أن نسلم بها. “أما عندما يتعلق الأمر بأشياء خيرة، فلا أحد يكتفي فقط بامتلاك ما يشبهها أو ما هو قريب منها فقط؛ بل على العكس تماما، فالبشر جميعهم يبحثون عن خيرات حقيقية، دون الإكتراث كثيرا بظاهر الأمور.”2
من الواضح للجميع أن السعادة تكمن في امتلاك الكثير من الأشياء الخيرة3: المال، الشرف، السلطة (خيرات خارجية)؛ الصحة، الجمال، القوة، القد (خيرات الجسم)؛ الشجاعة، الإعتدال، الذكاء (خيرات الروح)4. مع العلم طبعا أن امتلاك هذه الخيرات وحده لا يكفي، فالأشياء لا تنفع إلا من يستعملها، بل و من يستعملها لصالحه بشكل جيد. إن هذه الأشياء ليست في ذاتها لا بالخيرة و لا بالسيئة، إنها لا تصير هكذا إلا عندما نستعملها بشكل جيد أو سيئ. إلا أنه كل استعمال حكيم يقتضي أساسا و قبل كل شيء المعرفة. لنقل إذن أن الخير هو في جهة العلم، بينما الشر كل الشر هو في جهة الجهل5. علم السعادة إذن يعلمنا كيف نمتلك أشياء خيرة و كيف نستعملها أيضا.
و لكن أين نجد علم السعادة هذا؟ __ كل الحرف و كل التقنيات التي تنتج الأشياء أو تحصلها، تجهل كيف تستعملها. الصيادون كلهم مجبرون على أن يذهبوا بصيدهم للطباخ، فهو وحده الذي سيعرف كيف سيستفيد منه. جنرالات الحرب يمكن لهم أن يحتلوا مدينة، و لكن وحدهم رجال الدولة يعرفون كيف يستغلون الإنتصارات6. فيما يخص أي شيء، هناك دائماً تقنية للإنتاج أو للتحصيل، و أخرى لكيفية الإستعمال، و دائماً ما تكون الأولى خاضعة للثانية. هكذا إذن الفارس هو من يعلم الحداد أو صانع السروج كيف يجب أن يكون اللجام الجيد، الحائك إذن هو الذي سيسير عمل صانع المغزل7. الفنون و العلوم و التقنيات تخضع إذن لنظام تراتبي حسب ما تنتجه واحدة و حسب كيف تستفيد الأخرى من هذا الإنتاج، إلى أن نصل إلى العلم الأعلى للإستعمال و الذي سيهيمن على باقي التقنيات. فما هو هذا “العلم الملكي”8 إذن ؟
من الواضح أن هذا العلم الذي يحتل أعلى المراتب، لن ينطبق على أي شيء كيف ما كان نوعه، و لكنه سينطبق فقط على الموضوع الأعلى (إن وجد). لأن الأشياء كما العلوم و التقنيات فهي تخضع لنظام تراتبي فيما بينها. نحن لا نحب الأشياء على حد سواء. هناك أشياء نحبها على اعتبار أنها حلول نهائية لمشاكل ما، و هناك أخرى نحبها لأنها تكون بمثابة معبر لأشياء أخرى. يمكن لنا إذن أن نميز بين الأشياء التي نحبها لذاتها ( كمتع الشم مثلا)، و أشياء أخرى نحبها لذاته و للمنافع المترتبة عنها (كالنظر و الصحة الجيدة مثلا). و لكننا عندما نقترب أكثر لنرى بشكل جيد، نستنتج أن كل شيء يسعى دائما لشيء آخر يتجاوزه، و هو يعلن دائما قدوم غذ يكون صالحا لنا فيه بشكل أحسن، إلا أن هذا الغذ لا يأتي قط. كل هذه الأشياء–الأشباح التي تخدع9 رغبتنا، و التي نرغب بها في أفق أشياء أخرى، هي كلها تبشر بخير نهائي و محبوب لذاته، و هو بمثابة الحد10الثابت لكل متاهاتنا. من الواضح إذن أن هذا الخير الأعلى هو وحده القادر على إعطاء هذا العلم الملكي موضوعا يليق بمقامه11.
لا يمكن لنا الحديث عن السعادة دون الحديث عن الزمان الذي تنبني فيه. ففي الزمان نحن نرتب الخيرات العرضية واحدة تلوة الأخرى، و نحضر لقدوم و لحدوث الخير–الأخير. و بالرغم من أننا لا نعرف إلا النزر القليل عن هذا الخير الكافي و الشافي، إلا أننا نرغب في امتلاكه دائماً و أبداً12. إن الرغبة في السعادة تطلب أبدية الموضوع و خلود الذات. إن الخيرات الغير مستقرة، و الخيرات الخارجية، و خيرات الجسم، بما هي أشياء زائلة، لا يمكن لها أن تهب للكائنات المائتة إلا سعادة عرضية. بل حتى في حالة ما صرنا خالدين، فهاته الأشياء الفانية بطبعها لا يمكن لها أبدا إشباع13 عمق رغبتنا. الروح هي خالدة في حقيقة الأمر. لا شك في أن الأرواح عندما كان مسموحا لها بتأمل “المكان ما فوق سماوي” حيث هناك الأشكال المعقولة، كانت تجد هناء لا حدود له داخل هذا “الوضع السعيد”14. إلا إنه عندما سقطت _هذه الأرواح_ في الأجسام المائتة، صار من الصعب جدا إقناع عالم الهندسة الرياضية، بأن يستمتع فقط بدراسة شكل الدائرة، بل دون استعمال نصف الدائرة و البيكار(أدوات غير دقيقة و فوق هذا زائلة)، لم يكن يعرف كيف يبني منزله، أو كيف يعود لبيته15 عندما يحل المساء. إن ضرورات وضع الروح و قد غرست في الجسم، تفرض علينا أن نطارد دون كلل “الأشياء الخيرة” التي تهرب منا، و التي تحمل بين طياتها فقط شيئا من سعادة غير مستقرة، سعادة تتلاءم مع وضعنا الفاني و المائت. فإذا كان من المعقول أن الروح الخالدة تسعى عفويا إلى الأشكال الخالدة، فمن المعقول أيضا أن هذه الروح و قد غرست في الجسم أن لا تحس بأية رغبة اتجاه هاته الأشكال و أن هذا “الما–بعد”16 بكل حقائقه النعيمية يبعث عندها على الشك و هو بالنسبة لها تضليل17 كبير.
مرجع المقالة:
Victor Goldschmit. La Religion de Platon. Presses Universitaires de France. P.6-9.
إرسال التعليق