جاري التحميل الآن

أزمة الحق الطبيعي الحديث: روسو – ليو ستراوس

ليو ستراوس

ترجمة لمقتطف من نص “أزمة الحق الطبيعي الحديث: روسو”، للمفكر ليو ستراوس، من كتابه “الفلسفة السياسية و التاريخ”

تمثلت الأزمة الأولى للحداثة في فكر جان جاك روسو، إذ لم يكن هذا الفيلسوف أول من حدس بأن المغامرة الحداثية كانت خطأ، و لا أول من بحث عن حل لهذا في العودة إلى الفكر الكلاسيكي. و لبيان هذا الأمر، يكفي أن نستحضر هنا اسم جوناتان سويفت. إلا أن روسو لم يكن قط رجعيا بل سَلم نفسه للحداثة. و يمكن أن نقول أيضا بأنه وجد نفسه يعود إلى العصور القديمة، حين قبل بمصير الإنسان الحديث. على كل حال، فعودته هاته إلى تلك العصور، شكلت في الآن ذاته، خطوة مهمة إلى الأمام للحداثة. حين يستحضر روسو أفلاطون، أو أرسطو، أو بلوتارخس ضد هوبز، أو ضد لوك، أو ضد الموسوعيين، فهو كان يتخلص من أهم عناصر الفكر الكلاسيكي التي احتفظ بها أسلافه الحداثيون. عند هوبز مثلا، العقل وباستعمال سلطته، قام بتحرير الرغبة، الرغبة معه حصلت على وضع امرأة متحررة، إلا أن العقل ظل هو الحاكم الفعلي، حتى و إن ظل يمارس سلطته هاته عن بعد. أما عند روسو، فالرغبة نفسها أخذت المبادرة وثارت، فباحتلالها لمكانة العقل وبتنكرها لماضيها الماجن، بدأت في تمرير أحكامها، على لسان الفاضل كاتو الأكبر في تشديدات صارمة، حول انحطاطات هذا العقل.
إن الحمم البركانية المتوهجة التي انسكبت على العالم الغربي نتيجة للثوران البركاني الروساوي، تم استعمالها عندما بردت وأعيد صقلها، لصالح البنيات التي شيدها كبار مفكري الآخِر من القرن الثامن عشر و الأول من القرن التاسع عشر. لا شك في أن تلامذة روسو وضحوا جيداً وجهات نظره، إلا أنه بوسعنا التساؤل هل احتفظوا بما فيه الكفاية على بعد رؤيته. إن هجومه الشغوف والشديد على الحداثة، باسم العصور القديمة وباسم حداثة أكبر في الآن نفسه، أعاده نيتشه فقط، بنفس الشغف وبنفس القوة، ليدشن بذلك الأزمة الثانية للحداثة، وهي أزمة عصرنا هذا.
 يهاجم روسو الحداثة إذن، باسم فكرتين كلاسيكيتين: باسم فكرة المدينة والفضيلة أولا، و باسم فكرة الطبيعة ثانيا. ” السياسات القديمة كانت تتحدث دون انقطاع عن الفضيلة والأخلاق، أما سياساتنا الآن فلا تتحدث إلا عن التجارة والمال” هكذا كان يقول… التجارة، المال، الأنوار، إطلاق العنان للرغبة في الكسب، الأبهة والاعتقاد الراسخ في القدرة الكلية للتشريع، كانت هذه هي الملامح الرئيسية للدولة الحديثة، سواءً كانت ملكية مطلقة أو جمهورية تمثيلية. لا شك في أن الأخلاق والفضيلة لازالت تحتفظ بمكانة ما داخل هذه المدينة، فجنيف تظل هي أيضا مدينة، هذا لا شك فيه، إلا أنها أقل مدنية من مدن العصور القديمة الكلاسيكية، وخصوصا هي أقل مدنية من روما مثلا. في امتداح روسو لجنيف، ليس عنده الجنيفيون هم نموذج الشعوب الحرة، بل الرومان هم الأكثر استحقاقا للاحترام من بين جميع الشعوب. لم يوجد قط شعب، أكثر منهم فضيلة، وأكثر منهم قوة و حرية. الجنيفيون ليسوا هم الرومان، ولا هم الإسبارطيون، ولا حتى هم الآثينيون، إنهم يفتقرون للروح العمومية وللوطنية التي كانت تميز القدامى. إنهم يهتمون بشؤونهم الخاصة أو المنزلية أكثر من اهتمامهم بالوطن. إنهم بورجوازيون وليسوا مواطنين. الوحدة المقدسة للمدينة قد تم تدميرها في العصور ما بعد الكلاسيكية عن طريق ثنائية السطلة الدهرية والسلطة الروحية، وفي آخر المطاف عن طريق ثنائية الوطن الأرضي والوطن السماوي.
كانت تقدم الدولة الحديثة نفسها كجسم اصطناعي أتى للوجود بالتعاقد كي يقدم حلا لنقائص حالة الطبيعة. السؤال الذي يطرح نفسه اﻵن نتيجة لهذا و لكل ما سبق، هو : أ ليست حالة الطبيعة أحسن حالا من المجتمع المدني؟ لقد اقترح روسو فعلا العودة لحالة الطبيعة، العودة للطبيعة نفسها بدلا من عالم اصطناعي وتعاقدي، فطيلة مسيرته ككاتب، لم يكتف فقط بالدعوة للمدينة الكلاسيكية ضد الدولة الحديثة. بل وبالنفس ذاته، كان يدعوا ضد المدينة الكلاسيكية ل “إنسان الطبيعة”، الإنسان الطبيعي و ما قبل السياسي.
____________________________________________________________________________________
مرجع المقالة:
Leo Strauss. La philosophie politique et l’histoire. Le livre de Poche. P. 237-240.

Comments

comments

إرسال التعليق