الحرية هي الكل – مارسيل كونش
ترجمة لمقالة معنونة ب “الحرية هي الكل” من كتاب “الحرية”، للفيلسوف الفرنسي المعاصر مارسيل كونش
«الحرية هي الكل» : هذا الطرح الأولي هو قوي و غريب : و بالكل لابد لنا أن نفهم أنه يمثل مجموع الواقع : فكيف للحرية إذن أن تكون هي مجموع الواقع ؟
يشك الفلاسفة في ما يظهر للرأي العام على أنه واقع، يشكون ليس فقط في مواضيع الإيمان و الخرافة، و لكن في الأشياء المحسوسة أيضا : كهذا الخبز الموضوع فوق الطاولة مثلا. لأنه كيف يمكن لنا الاعتقاد، بأن ما يظهر و يختفي ( نخرج الخبز من الفرن لنأكله بعد ذلك) هو فعلا واقع كهذا الشيء الذي يدوم أبدا ؟ و لكن ما هو هذا الذي يدوم أبدا ؟ ليس بين الفلاسفة إجماع حول هذا الأمر، و كل إجاباتهم تحدد أكثر من واقع فلسفي. إن ما هو واقع أو حقيقي فعلا (ontos on)، هي الأفكار بمعزل عن الأشياء المحسوسة عند أفلاطون، و هي الأشكال متصلة بالأشياء المحسوسة عند أرسطو، و هي الذرات عند ديموقريطوس، و هم الأفراد أو الكائنات المتفردة عند خريسيبوس، و هو الإله عند ديكارت، و هي الطبيعة عند سبينوزا، و هي الجواهر الروحية عند لايبنتس، و هي الروح عند هيغل، و هي الحياة عند هايكل، و هي المادة عند انجلز… و لكن ما هو أفلاطون ؟ و ما هو أرسطو ؟ و ما هو ديموقريطوس (أو أبيقور) ؟ و ما هو خريسيبوس أو ما هو ديكارت ؟ إنهم أفراد، أي أنهم حريات في نهاية المطاف. إن الحقائق الفلسفية كلها هي نتاج، لهذه الحريات التي تحدد كل فيلسوف. ما كان لأي واقع فلسفي من كل الوقائع المذكورة آنفا، أن يوضع هكذا في ذاته، بمعزل عن الفعل الذي أسس له كواقع. الواقع ككل ما كان له أن يوضع في ذاته، بمعزل عن فعل الحرية ( الحرية المتفردة لكل فيلسوف) الذي به صار هذا الواقع كلاًّ.
تتساوى الحرية مع الكل إذن، حين تنتشله من العدم، لتجعل منه بعد ذلك واقعا.
و لكن إذا كانت الوقائع و الحقائق هي نتاج لأفعال الحرية، فما هو الواقع فعلا بمعزل عن اختيارات الفلاسفة و بمعزل عن آراء الحس المشترك ؟ هذا سؤال ساذج في حقيقة الأمر، فهو يرمي إلى أن يعطي لكلمات من قبيل الواقع و الواقعي، معنىً يحقق إجماعاً للعقول. فهل سيعنى هذا بأن كل شيء سيسقط بعد ذلك في الذاتية ؟ هذا الأمر هو طبعا محال، لأنه كيف لنا أن نفترض بأن كيان الذات يمكن له أن يكون هكذا في ذاته دون أن تؤسسه حرية ما ؟ إن «الكل» هنا أي مجموع ما يقع، لا يسقط في الذاتية بل يسقط في الظاهر – L’apparence. الأفكار أو الأشكال أو الذرات هي الواقع فعلا، سيقول الفلاسفة، و ثمة ما يظهر فقط واقعا من الأفكار و الأشكال و الذرات، و هذا مرده لأفعال الحرية الصادرة عن أفلاطون و أرسطو و ديموقريطوس.
أما بالنسبة لي، فما يظهر للحرية التي هي أنا، واقعا كليا، هو ظاهر واقع العالم المتغير على أساس الطبيعة الثابتة. مع و نتاجا لهذا الفعل الواهب للواقعية للطبيعة ( مع تغير العالم )، و الجاعل من الطبيعة مطلقا بدل الإله، تقوم حريتي بإسقاط الواقعية عن الوقائع أو الحقائق الأخرى، سواء كانت أفكار أفلاطون، أو أشكال أرسطو، أو الذرات، أو الإله… إلا أن الحرية تبقي الكل دائما في دائرتها. و هكذا سنجد ثمة الكثير من دوائر و مجالات الظاهر، بقدر ما ثمة الكثير من الميتافيزيقات، و التي تظهر لي جلها وهمية ماعدا تلك التي تؤسسها حريتي الخاصة.
ما الذي يظل لنا من كل هذا في الأخير ؟ وحدها الحرية تظل، لأن الكل لا واقعية له دون الحرية التي وافقت و شهدت له.
الكل موضوع في ذاته : يا له من ثقل أو لنقل كلكلٍ عظيم ! و لكن إذا نحن رددناه كما يليق به ذلك، للحرية : فيا لها من خفة !
____________________________________________________________________________________
إرسال التعليق