جاري التحميل الآن

منطق الأفظع – كليمون روسيه

كليمون روسيه

ترجمة لمقتطف من كتاب “منطق الأفظع – عناصر لأجل فلسفة تراجيدية”، للفيلسوف الفرنسي المعاصر كليمون روسيه.

يُفتَتَح تاريخ الفلسفة الغربية بمحضر حداد، حين تختفتي عن مسرحه مفاهيم من قبيل : الزهر Le Hasard، و اللانظام، و الكاووس. و لعل خير ما يشهد على ذلك قولة أناكساغوراس هذه : ” في البدء كان الكاووس أو العماء، و بعد ذلك حضر الذكاء الذي حَلْحَلَ كل شيء”. إن أهم الكلمات التي ظل صداها يتردد في الوعي الفلسفي للإنسان الغربي كانت هي أن ” الزهر _ أو الصدفة_ لم يعد بعد” : قول دشن لشطب فكرة الزهر الأصلي، و المؤسس، و الواهب للوجود، من حقل الفلسفة. مما لا شك فيه أنه كان لابد لهذا الزهر أن يجد مكانة ما له، داخل هذه الفلسفة التي لفظته، إلا أنها مكانة ظلت دائما من الدرجة الثانية. الزهر يوجد إذن، غير أنه لا يكون إلا انطلاقا من و داخل إطار يلعب له دور الأفق : تماما كالتصور الذي منهجه كورنو في أطروحته الشهيرة. في هذا الاطار ظهرت و نشأت، ما سميت لعدة القرون بالمشاريع الفلسفية. كل الذين يعتقدون بأن المهمة الفلسفية لها معنى ما _ أي تقريبا جل الفلاسفة _ يجمعون على أن موضوع هذه المهمة هو الكشف على نظام ما، برفع اللبس على اللانظام الظاهر، و ابراز علاقات ثابتة تتسم بالمعقولية، ليسهل بعد ذلك التسيد على مجالات الفعل الناتجة عن الكشف عن هذه العلاقات، و هذا هو ما سيضمن للإنسانية و لل”فيلسوف” طمأنينة أكثر في مواجهة البؤس المرتبط بالتيه و الظلال في صحراء اللامعقولية _ إن هذا البرنامج هو مشترك بين كل الفلسفات التي تعتبر جدية : مشترك بين مشاريع فلسفية مختلفة و متضادة حتى، كفلسفتي ديكارت و فرويد. هكذا فقط أصبح ممكنا، لمن نسميهم خطأً أو صواباً بالمثقفين، أن يمارسوا استيهامهم الأساسي و المتمثل في : أمل دفين في القضاء على الحزن و تحصيل السعادة، بواسطة النفاذ و قوة الذكاء و الحيلة. استيهام تفاؤله ذو طبعين، واحد أنطولوجي و الآخر غائي. أنطولوجي : لأنه يفترض بأن لنظام الأفكار سلطة على نظام الكائنات، و هذا ما يفترض أيضا بأن الكائن هو نظام منتظم. و غائي : إذ أنه يعتقد بأن الكشف عن هذا النظام فكريا و وجوديا هو كفيل بضمان عيش أحسن. من هذا المنظور اذن، سيكون التمرين الفلسفي مهمة جدية و مطمئنة : سيكون في ذات الآن، فعلا بناء و منقذا.
على الطرف النقيض من هذه الفلسفة و على هامشها، وجد من بعيد لبعيد، مفكرون عهدوا لأنفسهم بمهمة مختلفة تماماً. فلاسفة تراجيديون، كان هدفهم هو حل هذا النظام الظاهر، لإيجاد الكاووس الذي دفن مع أناكساغوراس؛ من جهة أخرى تبديد و إزالة أية فكرة لها علاقة بسعادة وهمية لإثبات الشقاء، بل و لإثبات أفظع شقاء. إرهاب فلسفي يرد الممارسة الفكرية لمنطق الأفظع : ننطلق من النظام الظاهر و من سعادة وهمية، لنمر عبر و نصل بالضرورة إلى نتيجة، تفيد باستحالة أية سعادة، حتى نصل إلى اللانظام، و إلى الصدفة، و إلى الصمت، بل و إلى حدود الإضراب عن التفكير. تصير الفلسفة هنا فعلا هداما و كارثيا : الفكر هنا يرمي إلى الخلخلة، و التدمير، و التقويض _ بصفة عامة، يهدف هذا الفكر لحرمان الإنسان من كل ما يمكن أن يحتمي به ” فكريا ” في مواجهة البؤس. تماما كالسفينة _ التي يرمز بها أنطونين أرطو للمسرح، في بداية المسرح و نسخته _ فهي سفينة تمنح البشر الطاعون لا الترياق. هكذا إذن سيظهر على التوالي في أفق الثقافة الغربية مفكرون كالسوفسطائيين، و لوكريس، و مونتينه، و باسكال، و نيتشه … مفكرون ارهابيون و مناطقة للأفظع : همهم المشترك هو النجاح في التفكير في الأفظع و تأكيده. الانشغال هنا أضحى في ضفة أخرى : لم يعد الأمر أمر تجاوز تيه فلسفي، بل تأكيد هذا الأخير و جعله أمرا حتميا، بتصفية كل إمكانية للنجاة. إن ما يقلق الفيلسوف الإرهابي هو السكوت على هذا الطابع العبثي للمعنى، أو الطابع اللامعقول لهذه الجدية القائمة. إن نسيان وضع خطير كهذا، هو بعجالة تقديم التراجيدي في جدول ناقص و سطحي. هكذا اذن سيعتبر الفعل الفلسفي إذن فعلا هداما و مدمرا.
النجاح في التفكير في الأفظع _ هذا هو الهدف العام للفلسفة الإرهابية، الهم المشترك بين فلاسفة مختلفين، كأولئك المذكورين آنفا. بالنسبة لهؤلاء الفلاسفة، هذه المهمة ليست المهمة الوحيدة المنوطة بالفلسفة و لكنها هي الضرورية ايضاً. إن ما يشترك فيه السوفسطائيون مع لوكريس و باسكال و نيتشه يكمن في أن ضرورة الخطاب حسب الأفظع هي مسألة مسلم بها منذ البدء _ و الضرورة تفيد هنا أيضا بأن هذا الخطاب هو الوحيد الممكن. إن ما يقول به السوفسطائيون حول الأعراف و العادات، أو ما يطرحه لوكريس حول الطبيعة، أو الإنسان دون إله عند باسكال، أو الإنسان الديونيزوسي عند نيتشه، هي كلها خطابات تنتظم حسب إشكالية الأفظع، و تعتبر هذا المنطق ضروري منذ البدء.
____________________________________________________________________________________
مرجع المقالة:
Clément Rosset. Logique du pire – Eléments pour une philosophie tragique. Puf. P. 9-11.

Comments

comments

إرسال التعليق