جاري التحميل الآن

ماكيافيل – كليمون روسيه

كليمون روسيه
ترجمة لمقالة للفيلسوف الفرنسي المعاصر كليمون روسيه حول ماكيافيل، من كتابه ضد-الطبيعة
إن الإشكال السياسي للأمير، قبل أن يكون إشكال نجاعة، هو إشكال له علاقة أساسية بسؤال الزمان: كيف النجاح في إدامة وضع للأشياء أساسه هو مؤقت و متحرك و هش؟ التأسيس لدولة يجيب هنا على إشكالية الزمان هذه: إن الفارق الرئيسي مع دول أخرى، هو أن هذه الدولة التي نتحدث عنها كانت محظوظة فقط حين حصلت على امتياز الديمومة. لأن الوضع “الطبيعي” لما يوجد هو خال تماما من كل مميزات الوضع، حيث أن الوضع يقتضي قدرا من الثبات و الديمومة: إن ما يوجد هو عبارة عن نسيج من الظروف العصي عن كل سيطرة، و هو غير ضامن لأي مبدأ لدوام الحال. “إنه لمن الصعب جدا أن نضع قوانين عامة لموضوع متغير حسب الظروف.”1 يقول ماكيافيل حول نفسية أنصار الأمير: هنا و بعجالة يظهر لب الإشكال السياسي، و الذي يتمثل في كيفية تحويل الظرفي إلى راكز، و صناعة الديمومة انطلاقا من المتحرك. إن إشكال الزمان هذا هو في حقيقة الأمر عين الإشكال السياسي كله، و الذي يقترح ماكيافيل لحله الإمساك بزمامه _أي الزمان_ و تحويله إلى أمد يدوم طويلا، مع طبعا حرمان رعاياه منه حتى لا يصنعون منه بدورهم أمداً يواجهونه به. هكذا إذن ستكون القسوة مفضلة على الرأفة، حيث أن أمد القسوة هو أطول في وقعه من أمد الصداقة: “ العقل في أن الصداقة، بما هي علاقة اعتراف أخلاقية، لا يمكن لها أن تصمد أمام حسابات المصالح، بينما الخوف و الذي يتأسس على العقاب يظل دائماً حيا كفكرة.”2
إن العامل الرئيسي و المحدد في إشكال النجاعة المقارَنة بين الوعيد و الوعيد، بل في إشكال النجاعة عموما، هو عامل المدة بمعزل عن كل تحليل قيمي. و منه إذن ستكون الحكمة السياسية متمثلة في تقليص مدة الشر و إطالة مدة الخير، لنستمع لما يقوله ماكيافيل: “ لابد لمن سيطر على دولة، أن يمارس كل الشرور التي يقتضيها أمنه دفعة واحدة، حتى لا يعود لممارستها مرة أخرى: لأنه عندما لا يعود لممارستها يُطمئن بذلك رعاياه، و يجرهم إليه بمنحهم خيرات.(…) أكرر القول، الشرور التي يقوم بها حاكم دولة يجب أن يقوم بها مرة واحدة، حتى يحسها رعاياه بشكل أقل، و تؤذيهم بشكل أقل أيضا؛ أما الخيرات فلا بد له أن يدفع بها تقسيطا، حتى يتذوقها رعاياه بشكل أحسن”.3 السيطرة على الزمان، السيطرة السياسية تعني النجاح في خلق أمد يدوم و حرمان الرعايا من هذا الأمر، على هذه النحو كان فيردناد اسبانيا، و الذي : “ كانت تتوالى أعماله العظام، فلم تترك للشعب الوقت الكافي للتآمر عليه.”4
الحساسية الحاضرة في قلب هذه الفلسفة السياسية، هي أنه لا شيء يمكن له أن يدوم بقواه الخاصة أو فقط بطبيعته. لا شيء يدوم بذاته لأنه ليست له أصلا طبيعة: و الطبيعة تعني هنا تنظيما متعاليا عن كل العادات و الظروف و ضامنا لديمومة نسبية في مواجهة التقلبات التاريخية. إلا أن مبادئ الديمومة هذه غائبة عن العالم، و ماكيافيل يصر على أن الأمير لا يجب عليه أن يراهن أبداً على أي حال من أحوال رجاله. لأنه في حقيقة الأمر ليست هناك أية طبيعة إنسانية يمكن الرهان عليها: “ طبع الشعوب ليس ثابتا، بل هو متحرك، يمكن أن نجرهم بسهولة لرأي ما، و لكن من الصعب جداً أن نمسك بزمامهم.”5 “البشر عموما و لابد من قول هذا الأمر، هم جاحدون، و متقلبون، و مراؤون، و خجولون”.6 قد تكون هذه نظرة متشائمة، إلا أن التشاؤم هنا لا يتمثل في إلصاق طبيعة شريرة بالبشر، و لكن يتمثل في الإمتناع عن إلصاق أية طبيعة بهم. إن الفكرة القائلة بأن وضعا يمكن له أن يدوم لوحده، هو الوهم الكبير الذي يحذر منه ماكيافيل الأمير عموما: فالخجل مثلا يمنع الأمير من التحرك و اتخاذ موقف قبل فوات الأوان، إنه في حقيقة الأمر رذيلة_ أي الخجل_ لأنه يمنع الأمير من تجديد فعله دائما و أبدا لإحكام سيطرته على وضع ما. فكرة الديمومة الطبيعية هي في حقيقة الأمر، أحسن تعريف للخطأ السياسي، و هي سبب هلاك الأمير: “عندما استند أمراء إيطاليا إلى هذه الضمانة الخادعة انهارت دولهم”.7
لا شيء يدوم بالطبيعة، و كل ما يدوم لا يدوم إلا بفعل الأمير: أي وضع مريح لا يمكن له أن يظل على ما هو عليه، إلا إذا تمت رعايته دائماً و اصطناعا بالسياسة. الإشكال السياسي الوحيد إذن هو: إشكال الديمومة_بينما لا شيء هو مقدر للدوام؛ لابد من العمل على إدامة قوة الأمير الخاصة_ إلا أن الموضوع الذي يحكمه الأمير لا يمكن له أبداً أن يستقر هكذا وحده، إذ هو في تغير دائم و أبدي. من إشكال الديمومة هذا نفهم لاجدوى و لا معنى الأسئلة الأخلاقية في فكر ماكيافيل: لأن الهوة التي تفصل النية عن الفعل، و تفصل الفعل عن نتائجه، هي شاسعة جداً، لهذا لا يمكن لنا أن نأخذ على محمل الجد المبادئ التي يدعي الأخلاقيون أنها هي من تحركهم ( أن تدوم نية حتى الفعل و حتى نتائجه هو أمر يدعو في حقيقة الأمر إلى الشك). إن ما يهم هو النتيجة و ليست النوايا الأخلاقية و لا الوسائل المستعملة لبلوغ هذه الغاية. إن النتيجة هنا أهم بكثير من الوسائل المستعملة و من النوايا الأخلاقية؛ و النتيجة ليست شيئا آخر غير النجاح في إدامة الوضع. و هو يتساءل ماكيافيل عن الأسباب التي مكنت بعض الطغاة من الاستمرار في السلطة كأغاثقس صيقيليا، دون مواجهة انتفاضات، يجيب: “ أعتقد أن هذه المسألة تعود بالأساس للكيفية التي يستعمل بها الأمير الشر. يمكن أن نقول عن الطريقة التي مورس بها الشر أنها جيدة، إذا ما مورس _هذا الشر_ مرة واحدة فقط، و كانت تقتضيه الضرورة، ضرورة الحفاظ على القوة، و كانت غايته و النتيجة المتوخاة منه، هي أمن و سلامة الشعب. أما الكيفية التي يمكن أن نقول عنها سيئة في استعمال الشر، هي تلك التي تبدأ صغيرة فتبدأ في التعاظم شيئا فشيئا. إن الذين يحسنون استعمال الشر، يمكن لهم أن يأملوا في أن يسامحهم الله و البشر كما هو الحال مع أغاتقلس. أما أولئك الذين يسيؤون استعماله، فإنهم لا يعمرون أبداً”8. حسن استعمال الشر لا يعطينا أمن و سلامة الشعب في حركيته، و لكن فقط كنتيجة فيما بعد؛ و ما يعزز هذا الشر من وجهة نظر أخلاقية أيضا، هو الحصول على نتيجة متمثلة في أمد يدوم: لأن عبارة من قبيل “أن يسامحك الله و البشر معا”، لا تفيد شيئا آخر غير أن تظل ممسكا بزمام السلطة.

مرجع المقالة:

Clément Rosset. L’anti-nature. Puf. P. 184-187.

Comments

comments

إرسال التعليق