جاري التحميل الآن

في أعماق الأرض: ثمة كاووس، بيونس، العدم – جون بييار فرنان

جون بيير فرنان

ترجمة لمقالة معنونة ب “في أعماق الأرض: ثمة كاووس، بيونس، العدم” من كتاب “الكون و الآلهة و البشر- حكايات النشأة الإغريقية”، للمفكر الفرنسي المعاصر جون بيير فرنان

أضحى للعالم بساط الآن بعد أن خرج من شساعة الكاووس. هذا البساط يرتفع من جهة نحو الأعلى على شكل جبال، و يمتد من جهة أخرى نحو الأسفل على شكل أجواف. هذه الأجواف هي أيضا تمتد دون أي حد، حيث أنه ما يوجد في قاعدة غايا السفلى، تحت التراب الصلب ، هي الهاوية دائماً، هو دائماً كاووس. لقد برزت غايا إذن من الفراغ، من الكاووس، و هي لصيقة و شبيهة به من ناحية الأعماق. هذا الكاووس يمثل بالنسبة للإغريق ضبابا غير شفاف، تلتبس فيه و تتداخل جميع الحدود. في عمق الأرض إذن نجد دائماً هذا الطابع الكاووسي الأصلي.

إذا كانت الأرض مرئية بوضوح، و كان لها شكل قطعة، و كان كل ما سيخرج من رحمها سيكون شبيها بها، أي له حدود و نهايات واضحة المعالم،فهي تظل من جهة أعماقها و أجوافها شبيهة بكاووس، إن الأرض هنا معتمة. في أعماقها_أي الأرض_ ليست بالبعيدة كثيرا في أوصافها عن كاووس. الأرض المعتمة في حقيقة الأمر هي تتمزق بين الأسفل و الأعلى، بين ظلمة التجدر في كاووس و المتمثل في أعماقها، و بين الجبال المتوجة بالثلوج التي تشرعها هي نحو الأعلى، هذه الجبال المضيئة و التي تصل قممها رحبة السماء المغمورة دائماً و أبداً بالنور.

في هذا المسكن الذي يسميه الإغريق بالكوسموس، الأرض تلعب دور القاعدة، إلا أن هذا ليس هو الدور الوحيد المنوط بها. إنها أيض تلد و تغذي كل شيء، إلا بعض الأشياء التي سنتحدث عنها فيما بعد و التي نبعت من كاووس و ليس منها. غايا إذن هي الأم الكونية، الغابات، الجبال، المغارات، الأجواف، أمواج البحر، السماء الشاسعة، كل هذا يخرج من رحم غايا، من أمنا اﻷرض. ما كان في أول الأمر إذن هو الهاوية، الكاووس، شيء يشبه فما كبيراً على شاكلة فجوة مظلمة لا يحدها شيء، إلا أنها في وقت ثان ستنفتح على بساط صلب: و الذي هو الأرض التي ترتفع تارة نحو السماء و تغوص تارة أخرى في الأعماق.

بعد الكاووس و بعد غايا ظهر مكان آخر كان يسميه الإغريق بإيروس، و سيسمونه فيما بعد بالحب العتيق، و يتم التعبير عنه بصورة حصانين أبيضين، و هو الحب الأول. لماذا هو الحب الأول ؟ لأنه آنذاك و في تلك الأزمنة البعيدة لم يكن هناك لا ذكر و لا أنثى، لم يكن لأي كائن أي جنس. هذا المسمى بالإيروس الأول ليس هو الإيروس الذي سيظهر فيما بعد في عالم الرجال و النساء، و الذي ستكون وظيفته هو تزواج جنسين متقابلين، هذا الأمر الذي يتطلب رغبة الطرفين، و يتطلب شكلا من أشكال التراضي.

كاووس إذن هي كلمة محايدة و ليست مذكرا، بينما الأرضغايا فهي حتما مؤنثة. و لكن من ستحب هذه الأرض بعيداً عنها و هي وحيدة مع كاووس ؟ لأن إيروس الذي ظهر ثالثا بعد كاووس و غايا لا يخص الكائنات التي تحمل جنساً. الإيروس الأول يمثل دفعة أو زفرة في الكون. فتماما كما خرجت غايا من رحم الكاووس، هي أيضا ستُخرج ما هو قابع في أعماقها دون أن تحتاج لكي تتزواج مع أي أحد، ما كان فيها و لها أضحى الآن خارجاً عنها. إن ما اكتشفته الأرض و ما أعتقته هو ما ظل دائماً و أبداً غامضاً.

لقد أنجبت الأرض شخصية مهمة جداً، و هو أورناوس، و الذي هو سماء، بل سماء ملؤها النجوم. و بعد ذلك ستلد بونتوس، و الذي يعني الماء، كل المياه، و بشكل أدق هو تدفق مياه البحر، لأن الإسم بالإغريقية هو مذكر. الأرضغايا صورت و خلقت أورانوس و بونتوس دون أن تحتاج للتزاوج بأي كان. فقط عن طريق القوة الجوهرية التي تحملها في داخلها، الأرض تطور إذن ما كان بداخلها، و ما إن يخرج منها حتى يصبح نسخة لها و ضدا لها في الآن ذاته، لماذا ؟ لأنها تنتج سماء مليئة بالنجوم، مساوية لها في الشكل و الصلابة. أورانوس يتمدد اﻵن إذن فوق الأرضغايا . السماء و الأرض هما شكلين للكون حيث أن الأول _أي أورانوس_ يركب الثانية، الأول هو سقف و الثانية هي بساط، و هما يغطيان بعضهما البعض باطلاق.

عندما أنجبت الأرضغايا بونتوس (التدفق البحري) الذي يكملها و يتخلل داخلها، و يحدها على شكل مجالات سائلة، أصبح هو أيضا مثل أورانوس، يمثل مقابل لها. فإذا كانت الأرض صلبة، و متماسكة، حيث أن الأشياء لا يمكن أن تتبعثر أبداً داخلها ، فالتدفق البحري على العكس تماما، هو سيولة و انسياب، لا شكل لهما، و هو  أيضا عصي عن كل قبض أو امساك: إنها مياه تمتزج ببعضها البعض و هي غير واضحة المعالم. سطح بونتوس هو مضيء، إلا أنه في أعماقه يظل مظلما، و هذا ما يشد جزء منه كما الأرض أيضاً إلى كاووس.

هكذا إذن تشكل العالم من ثلاثة كيانات أولية: كاووس، و غايا، و إيروس و من كيانين أنجبتهم بعد ذلك غايا و هما أورانوس و بونتوس. كل هذه الكيانات هي قوى طبيعية و آلهة في نفس الوقت. غايا هي الأرض التي نمشي عليها و هي في الآن ذاته إلهة، و بونتوس هو تدفق المياه البحرية و هو في الآن ذاته قوة ربانية لابد من عبادتها.

من هنا ستبدأ حكايات من نوع آخر، ستبدأ قصص عنيفة و درامية.

مرجع المقالة:

 Jean Pierre Vernant. Chapitre: Au tréfonds de la Terre : la Béance. Dans : L’univers, les dieux, les hommes, Récits Grecs des orginies [epub]. ÉDITIONS DU SEUIL, OCTOBRE 1999. Ce document numérique a été réalisé par Nord Compo

Comments

comments

إرسال التعليق