جاري التحميل الآن

المساعي الإنسانية – البحث عن الحقيقي – فيكتور غولدشميت

أفلاطون

ترجمة لمقالة معنونة ب”المساعي الإنسانية – البحث عن الحقيقي”، من كتاب “دين أفلاطون” لصاحبه الفيلسوف الفرنسي فيكتور غولدشميت

عندما سئل أناكساغوراس في يوم من الأيام لماذا رأى النور، أجاب: “ولدت من أجل النظر في الشمس، و القمر و السماء.”1_ هذه الإجابة في حقيقة الأمر هي إجابة عالم. و لكن حتى أولئك الذين يجهلون علم الفضاء، يُظهرون على أنهم “هواة للفرجة ”2 و يركضون وراء كل ما يعتقدونه “ صالحاً للنظر”3. إن الرغبة في النظر و المعرفة هي مسألة طبيعية و مشتركة لدى كل البشر. و لكن ما هذا الذي يستحق فعلاُ النظر و المعرفة ؟ و هل للإنسان قدرة فعلا على امتلاك نظرة واضحة و معرفة حازمة ؟
لقد عمل العلم الإغرقي منذ فجره، على حماية المعرفة من التبعثر، و التعويم و الخطأ، و اجتهد لكي يضمن لها موضوعا واحداً داخل تعدد الأشياء، موضوعا تابثا عبر تغير هذه الأشياء، و حقيقياً وراء ظاهرها. إن مفهوم الجوهر الأول-La Substance primordiale يجيب على هذا الشرط الثلاثي. إذ هو واحد4، و غير متغير، و دائم، إنه كما القماش الذي تُصنع منها أشياء متعددة و زائلة. و هنا يغيب في البدء 5، سؤال من قبيل من العامل الذي صنع مادة هذا القماش، أو ما هي القوة، منفصلة كانت أم لا، التي تحرك هذا الجوهر و كل الأشكال التي لا تعد و لا تحصى الناتجة عنه. سيضع فيما بعد أومبيدوكليس، بالإضافة للعناصر الأربعة، الصداقة و الكراهية، بينما أناكساغوراس كان ينظم أجزاءه المتشابهة بروح؛ ف”علة مادية” لا تكفي وحدها لتفسير كل الأشياء.
يعرف أفلاطون فلسفته في مناسبتين، بأنها على صلة وطيدة بأبحاث الفيزيائين. فنظرية الأشكال عنده ترمي إلى حل المشكل القديم، و المتمثل في ما يسمى بالجوهر الأول، و الذي يعيد صياغته_أي المشكل_ أفلاطون على هذا النحو: ما الكائن6 ؟ و ما هي بشكل عام، العلة المسؤولة عن الخلق و عن الاندثار7 ؟ _ إلا أن الأشكال-Les Formes هي “الكائن الحقيقي فعلا”8، و لهذه الأشكال يجب أن ننسب علة كل ما يحدث في عالم الصيرورة9.
الأشكال هي غير محسوسة و غير مرئية. و منه فإن أي فصل بين المادي و الروحي، يغدو أمرا فارغا. لم يعد الأمر متوقفا على إيجاد سند مادي لتغير المحسوسات، أو إيجاد جوهر أول مفترض لها. إن النظام المادي ينهار كلياً. و المادة تصير خالية من أية واقعية و معقولية، ليس فقط في واجهتها _ أي المادة_ و لكن حتى في آخر معاقلها. الواقع كله ينضوي تحت لواء الأشكال المعقولة. لا مادة تصنع الأشياء أو تفنيها، و لكن الأشكال وحدها فقط عندما تسمح ب”محاكاتها”10، أو عندما تشارك هي _أي الأشكال_ في صنع هذه الأشياء. العلة الوحيدة “المعقولة”11 أي المفهومة، لا تكمن لا في المادة و لا في أية قوة محركة، و لكن فقط في الأشكال، و التي هي في الآن ذاته نماذج و علل لكل صيرورة.
تحتفظ الأشكال من الجوهر الأول بثلاثة صفات فقط، فهي _أي الأشكال_ حقيقية لأنها هي ما هي عليه بشكل دائم، و هي دائماً مطابقة لنفسها، و بالإضافة لهذا فهي كما جوهر القدماء، تُرجع التعدد للوحدة. هناك ما لانهاية له من الأجسام، و الأشياء، و الأفكار، و الأفعال التي نسميه جميلة، و لكن هناك شكل واحد للجمال؛ هناك ما لا نهاية له من الأسِرة الملموسة و لكن هناك “سرير واحد في ذاته”12، هناك “قانون واحد لبنية السرير”13. و بدورها تتوحد هذه الأشكال المختلفة و المتعددة في الخير، الشكل الأعلى، و العلة الأولية التي تهب “الوجود و الماهية”14 لكل الأشكال المنبثقة منها.
لقد قدس القدماء قبل ذلك الجوهر الأول؛ فمثلا أومبيدوكليس يطلق على العناصر الأربعة أسماء بعض الآلهة الإغريق15.من الواضح أن المسألة هنا ليست مسألة استعارة 16 و فقط . إن أفلاطون يربط بكل وعي، بين صفة الرباني و كل ما يميز الأشكال: الشكل هو “ رباني، و خالد، و معقول” 17، هو “رباني، و خالد، و أبدي”18؛ و هي _أي الأشكال_ متعالية على كل النجوم التي تستمد قدسيتها من تأمل هذه الأشكال الحقيقية و الأبدية، إن الأشكال هي التي تجعل “ من الإله مقدسا حيث أنه ينطبق عليها” 19.
و هكذا إذن انتقلنا من فضول المسافر و بحث العالم، إلى علم ما هو رباني. إن عروض المشاهدة التي تفتننا تفقد شيئا من واقعيتها، و من طابعها الحقيقي، و من جمالها حتى، لتصير هذه العروض مجرد محاكاة ناقصة لهذه الأشكال. الأجسام السماوية تعيد إنتاج عبر ثوراتها حركات شكلية، و غير مرئية و هي وحدها قابلة للمعرفة20. يتحول البحث إذن من الظاهر إلى الحقيقة، و من التغير إلى التباث، و من التعدد إلى الوحدة، نمر من الصيرورة إلى الكائن، و بتواز مع هذا ترتفع معرفتنا من الرأي إلى العلم. الأشكال في الآن ذاته هي واقعية و حقيقية21. إن الأشكال هي باراديغمات (نماذج) تخلق صور حية تشبهها، و تحافظ عليها و تُسَيرها وفق مبدأ الأحسن، و إن لها_أي الأشكال_ قدرة أيضا على إرجاع هذه الصور الحية إلى العدم.
الكائن الذي يخص الأشكال يفيد التباث بقدر ما يفيد قوة خلاقة 22، و منه نفهم بأن أفلاطون عندما يضع الأشكال كان يجيب دون تمييز، على موضوعين لسؤال واحد، ما الكائن؟ و: ما هي علة الصيرورة23 ؟ في البحث عن موضوع حقيقي، يسعى البحث دائماً نحو المتعالي، و الذي هو في مجموعه، كائن بل و يصنع الكينونة ، و يجعلها حقيقية24.
على هذا النحو إذن يمكن أن نقول أن مشكل الجوهر الأول تم تجديده كليا، بل و تم تجاوزه. إذ أنه لا يمكن حله بالكوسمولوجيا فقط، و لكن بكل العلوم التي تقبض على الأشكال سواءً بشكل واضح أو مبهم25. و فوق هذا فالأشكال هي نماذج ليس فقط لما يصير، و لكن أيضا لما نجعله نحن يصير. لم يعد الأمر متوقفا فقط على معرفة شكل قد أنتج صورا من قبل، و لكن يقتضي منا الأمر معرفة شكل، لابد لنا من محاكاته في أفعالنا و أعمالنا. إن معرفة الأشكال أضحت أمراُ ملحا، ليس لمعرفة عالم الصيرورة فقط، و لكن لكي نفعل فيه و عليه.
يمكن لذلك الذي يهوى الفرجة أن يستمتع بكل الأشياء النادرة و الثمينة التي تقع تحت ناظره، كما يمكن للفيزيائي أن يحصر بحثه في الكون المرئي. و لكن فضول العامي كما بحث العالم يستهدفان الأشكال و لو على نحو ملتبس، هذه الأشكال “الحقيقية فعلا، و القابلة للمعرفة”26، و هي علل ما يعشقه العامي و ما يدرسه العالم، و التي هي وحدها يمكن لها أن تنير27 نظرتهم و علمهم. و لكن عندما نصل للموضوع الأعلى للعلم، أي للخير، فنحن لا نعرف فقط الصور الناهلة منه، و لكن أيضا تلك التي يتوجب علينا توليدها.إن تَعَقل الأشكال، و ما بعد الأشكال، أي الخير، يُسَير و يُخَضع معرفتنا و فعلنا. و منه إذن، و عندما نسعى بملء إرادتنا، للنظر و العلم، فنحن نخضع لإكراهات الكائن، و المعرفة تفرض نفسها على إرادتنا، و لا يمكن لنا أن نكون بعد أحراراً أمام الخطأ. إن البحث عن الحقيقة هنا، يصير أمراً خاضعاً للخير.

مرجع المقالة:

Victor Goldschmit. La Religion de Platon. Presses Universitaires de France. P.1-6.

Comments

comments

إرسال التعليق