السوفسطائيون I – كليمون روسيه
ترجمة للجزء الأول، لنص معنونٍ بالسوفسطائيين، داخل قسم الفلاسفة الاصطناعيين من كتاب ضد-الطبيعة، للفيلسوف الفرنسي المعاصر كليمون روسيه
إن الهدف الرئيسي للفلسفة السوفسطائية هو اللمعان، و مبدأ درسها الأساس، يكمن في تلقين هذا الفن: أي أن نجعل من بعض التلامذة أبطالا في تمثل باقي البشر،أبطالا بالمعنى الذي نحته بالتزار غراتسيان لمفهوم البطل. ما يهم هو ما يظهر، و ما يظهر هذا متوقف على خصوصية و تَفَرُّد كل وجهة نظر: نزوع إلى الظاهر و التنسيب هو على الأرجح من أصول هيراقليطسية، تنظمه و تجذره السوفسطائية. الاهتمام الفلسفي للسوفسطائين يقف عند الظاهر، دون الاكتراث بتثبيت معيار ما، للتمييز بين هذا الظاهر، حسب درجة معينة من الحقيقة و الخطأ. هذا همّ لا معنى له و لا جدوى منه عندهم. إن التمييز الحقيقي عندهم يقع في مستوى آخر: إنه يكمن في معرفة ما هو مُنَفَّرٌ و ما هو مُغْرٍ في ما يظهر، حتى يسهل بعد ذلك التكهن بالظروف التي يكون فيها ما يظهر هذا، مليئا باللمعان و الإشراق، و طبعاً تعزيز هذه الظروف. من هنا نظرية لا للماهية، و لكن للظرفية المواتية التي سينهل منها بالتزار غراتسيان في تصوره لمفهوم الفرصة السانحة.
اللمعان كما يتصوره و يبحث عنه السوفسطائيون، يمثل طابعاً خاصا و فائق الأهمية، و هو يتمثل في عدم تزيين أو حجب أو إنكار الواقع : و لكنه _ أي الواقع _ عندهم يمتزج و يختلط مع مظهره الخاص، مظهره الذي يستنفذه دون أن يترك منه أي بقايا ما مثالية أو ميتافيزيقية. إن الظاهر هنا لا يحمل أي معنى مضلل أو دوني: الكلمة تفيد على العكس تماما مجموع الواقع كما يدركه البشر و يجربونه كل من منظوره الخاص. فباختزال الوجود في الظاهر، يخضع الفكر السوفسطائي لحساسية مادية بارزة الصرامة: إذ لا يتعلق الأمر هنا بحذف الواقع لصالح المظاهر، و لكن بتثبيته (أي الواقع) و تأكيده صراحة و قطعا، و ذلك بتطهيره من جميع الأشباح الفلسفية و الدينية التي تأخذ تارة اسم الفكرة، أو تارة اسم الشكل أو تارة أخرى اسم الوجود في ذاته. فكما تعلن ذلك صراحة كل شهادات العصور القديمة، الفكر السوفسطائي كان مادياً، ملحداً و لا أخلاقياً( لا أخلاقيا ليس بغرض تفنيد الأخلاق، و لكن لأجل اقرار طابعها العرفي-الاتفاقي، هذا الطابع الذي لا يقلل في شيء من شأن الصرح المؤسساتي). و هذا يعني فيما يعنيه أيضا، بأن البحث عن اللمعان يكتمل هنا دون قلق و دون أحكام مسبقة أو أفكار خفية: ليس هناك أي حقيقة أو قيم يمكن أن ينتهك حرمتها هذا اللمعان، لأنه هو _ أي اللمعان_ و بقدرته على تنظيم، الادراكات و التمثلات على أحسن وجه ممكن، من يصنع واقعه الخاص و قيمه الخاصة به.
يظهر هنا اذن الفكر السوفسطائي على أنه الفكر الأكثر جرأة على الاطلاق، أي أنه أكثر تشككا من فكر الشكاكين الإغريق أنفسهم، هؤلاء الذين سيحتفظون بمسلمة مفادها وجود حقيقة في ذاتها، غير قابلة للمعرفة و لكنها تظل قابعة في كل التمثلات: إنه حنين مثالي يجعل من هؤلاء الشكاكين، مجرد أفلاطونيين مخذولين، و ليس شكاكين بالمعنى الحديث للكلمة ( و لهذا بالضبط يعتبر ديوجين لاريس و سيكتوس أومبيروس أفلاطون أحد الآباء الروحيين للفلسفة الشكية). ما لا يظهر اذن لا وجود له (“ ما لم يشاهد قط، و كأنه لم يوجد قط.”) سيقول بالتزار غراتسيان. هذا هو المعنى العام للعبارات الشهيرة لبروتاغوراس التي تنحي تيمة الموضوعية جانباً، و تختزل كل ما يوجد في مجموع مظاهر ذاتية. من هنا الطابع الشائن للفكر السوفسطائي: فهو لا ينبس ببنت شفة بخصوص ما يراه الفلاسفة عندما يتكلمون عن الظاهر أو الاصطناعي _ أي حول الحقيقة أو الطبيعة، هذا الزوج الذي منه فقط، يستمد الظاهر و الاصطناعي عندهم، معناه و أهميته. لقد شطب السوفسطائيون تماما، من ذاكرتهم هذا الانتماء الأصلي للاصطناع إلى الطبيعة: إنهم أعتقوا الاصطناع، عندما رفضوا له أي خضوع للطبيعة، لينظموا بذلك فنا للعب بظاهره فقط (أي ظاهرُ الاصطناع)، و هذا بالضبط هو ما يحدد تقنيتهم السوفسطائية الخاصة. في نظر الفكر الطبعاني أو الماهوي، يظهر الفكر السوفسطائي أعرجاً: إذ هو دائم التباهي بالتخلي عن كل قفا _إنه وجه لعملة يريد لنفسه أن يظل وحيداً. هنا يصبح الظاهر ممدوحاً دون الاكتراث أبداً، بالعلاقات التي قد يقيمها هذا الظاهر مع اشكالية ما للحقيقة. الاصطناع هنا ممارس دون حياء، دون قلق من خسائر قد يسببها لطبيعة ما غائبة: فما لا يوجد لا يمكن له أن يتعرض لأي خسائر. هكذا إذن كان السوفسطائيون أول الفلاسفة المعروفين، الذين عملوا على تحقيق البرنامج الفلسفي لنيتشه و المتمثل في: “رفع القداسة” عن الطبيعة ( بحذف مفهوم الطبيعة نفسه)، و “تطبيع” النوع البشري بمصالحته مع “ طبيعة صافية، طبيعة مُلْتَقَاة، طبيعة مُعْتَقة”( و هذا يعني الوجود “منسلخاً عن الطبيعة”، محررا من خرافة فكرة الطبيعة)، تماما كما أراد ذلك نيتشه في الشذرة 109 من العلم المرح. فالمسألة هي في نهاية المطاف مسألة لقاءات: فالسوفساطائيون يلتقون داخل الاصطناع و العرف، بحضور (و بحضور كامل) لطبيعة تظهر فجأة مدونة بكل الحروف، هنا حيث مفكرين قلقين كبارمينيدس شخصوا عدم وجودها في الواقع التجريبي. من هنا يفهم امتداح المؤسسات، بالطريقة التي تصورها على الأقل بروتاغوراس و التيار الأول من السوفسطائيين، كاصطناع تجمعي، بمعزل عن كل أساس طبيعي، محض “واهب” لمزايا ما، قد تكون دَيْناً على الدولة، و المجتمع و الثقافة: هذا الاحساس بسبق و سيادة و نجاعة الدولة و الروابط الاجتماعية، التي يعلنها هوبز و ماكيافيل، تظهر بشكل خاص في النص السوفسطائي الحاضر في المعجم الجامبيلي، و في بعض ردود بروتاغوراس في بروتاغوراس أفلاطون. الأخلاق كامنة في الثقافة كما أن الاصطناع هو من ينتج الطبيعة: بهذا سيكون الشروع بالتنديد بالتناقض بين تصور السوفسطائيين هذا لل”خير” و بين ما يدرسونه، كما يفعل أفلاطون في بروتاغوراس، أمراً لا جدوى منه. لأن ما يدرسه السوفسطائيون هو من صميم تصورهم للثقافة كاصطناع، تماما كما أن البيئة هي التي تعلم الأطفال اللغة الاغريقية كما يقول بروتاغوراس.
سحب الجنسية من الطبيعة و تجنيس الاصطناع: على الانسان بأن يقنع نفسه بأن الوجود الاصطناعي هو وسطه الخاص، لأن لا شيء “خاص” لا بالأشياء و لا بالانسان: إن الاصطناع المحيط بالانسان لا يستلبه في شيء، على هذا الانسان أن يتعلم باتباع الدرس السوفسطائي، أن يعترف بالقوة الرؤوفة لهذا الاصطناع، و التي كان يعزوها بشكل ساذج “لطبيعة-أم”_ فهكذا كان يذهب معصب العينين، للخطر الذي كان يريد الهروب منه، لأن فكرة الطبيعة هي من كانت تستلبه، بل لم تكف يوما عن استلابه، منذ أن خنق أفلاطون نفس السوفسطائيين. ما كان يريده السوفسطائيون اساساً هو تعليم البشر، كيف يحسون في الوجود و كأنهم في غرفة مضيئة (حتى نستعيد ما قاله نيتشه حول ديموقريطوس)، وجود محرر من كل الظلال و من كل خدع العين: من كل أشباح الرغبة و التي يمكن اعتبار فكرة الطبيعة أشدها ضراوة و عناداً. ما كان يريده السوفسطائيون هو ما أراده نيتشه 24 قرنا بعد ذلك: النداء ببراءة الحياة الانسانية. تبرئة التاريخ، تبرئة الصيرورة: انكار تماماً بأن هذين الأخيرين (أي التاريخ و الصيرورة) متهمان بالمساس بحقوق الطبيعة، هذه الأخيرة لا وجود لها من الأساس. إن البشر بريئون من جميع التهم المنسوبة إليهم، لأنه لا ضحايا لهم : ضحية الاصطناع أي الطبيعة، لازالت مشروع ولادة و حياة. إن ما يدين الاصطناع دون انقطاع هو فكرة الطبيعة، فكر قائل بانزياح ما عن هذه الطبيعة و المسؤول عنه هو الاصطناع: فباستئصال فكرة الطبيعة إذن من وعي البشر، يهدف المشروع السوفسطائي لتبرئة البشرية، و لتخليصها من كل خطاياها و ذنوبها الوهمية. و كون بعض بقايا النصوص السوفسطائية، تشير للطبيعة ضد الاصطناع، أمر غني عن البيان و لا يفيد هنا في شيء؛ إذ يظهر جلياً بأن بروتاغوراس عندما كان ينصر الحجة الضعيفة ضد الحجة القوية، فهو كان يقصد الخطاب الضعيف للعرف ضد الخطاب القوي للطبيعة. و بشكل أدق: الطبيعة تتشبت فقط بخطاب، خطاب يستمد كل قوته من التأنيب، هذا الأخير الذي هو مجرد ثمرة للضعف و الخوف. تعزيز الحجة الضعيفة للعرف اذن ضد الحجة القوية للطبيعة هو دفاع عن القوة ضد الضعف، تماماً كما أراد ذلك نيتشه. يعني ممارسة البراءة ضد كل هجومات التأنيب. هكذا اذن كانت القوة المبهرة، للمشروع السوفسطائي: ولوج فوري_وشكلي_ لعالم البراءة.
____________________________________________________________________________________
مرجع المقالة:
Clément Rosset. L’anti-nature. Puf. P. 147-151.
إرسال التعليق