جاري التحميل الآن

الزمان و المصير – مارسيل كونش

مارسيل كونش

ترجمة لتقديم كتاب الزمان و المصير، للفيلسوف الفرنسي المعاصر مارسيل كونش

منذ أن اعتبر هيغل الوجود على أنه تصنيف، الشيء في ذاته، و الذي كل ما يمكن أن نقول عنه أنه كائن – Il est، لم يعد في ذاته أي شيء، و هذا يعني فيما يعنيه، أنه لا شيء بعد ذلك، يمكن له أن يقف ضد القول بأن الميتافيزيقا بما هي علم كلي بالواقع، عرفت نهايتها. لأنه و اذا كانت مهمة الفلسفة هي التفكير في الكائن (أو بشكل أدق في الواقع)، و كان هذا الكائن هو مجرد تصنيف، أي شكلا من أشكال الفكر، فالإنسان ككائن مفكر، لم يعد بامكانه أن يكون ذاتاً منتهية، إنه يصبح هنا دون خارج، أي أنه يصير بالضرورة ذات مطلقة. و ما يمكن لنا تأوليه مع فيغو اذا نحن أردنا ذلك، هو على هذا النحو : كل ما للإنسان له معنى للوجود أو للواقع، ليس سوى نتاج بشري، و لا شيء يمكن له أن يقف طبعاً، أمام الانسان في فهم ما أنتجه هو.

إلا أن المستقبل ليس بعد. فهل يعني هذا أنه غير قابل للمعرفة ؟ أي أنه ليس من اختصاص الفلسفة بما هي علم تأملي، و لكنه يدخل فقط في باب الرأي ؟ بكل تأكيد يمكن أن نقول بأن المستقبل بالنسبة لهيغل هو غير قابل لا للتنبؤ و لا للاستباق. إذ لا يمكن أن نعرف إلا ما هو كائن، لا ما ليس بعد. فلكي نعرف المستقبل لا بد من انتظار تحققه، و في هذه الحالة لن يظل مستقبلا. و لكن اذا نحن سلمنا بهذا، أي بعدم القدرة على التنبؤ بالزمان، فسيكون هذا الأمر بمثابة عملية برغسنة (من برغسون) لهيغل و هذا ما سيكون جهلاً خطيراً بهذا الفيلسوف. فحسب هيغل، المستقبل بما هو تتال للأحداث، لا يمكن معرفته قبلياً. ما يمكن معرفته فقط، و ما هو معروف بشكل مطلق، هو المستقبل الانساني_ أي أنه يجب أن يقع هذا المستقبل أو لا. إن هيغل هو فيلسوف الثورة الفرنسية بامتياز. إلا أن هذه الثورة ليست عنده ثورة من بين ثوارت أخرى و فقط. إنها الثورة المطلقة. بها يكتمل التاريخ، يكتمل ليس بالمعنى الذي لم يعد هناك شيء نفعله لتحقيق الحرية (فالثورة نفسها لم تحل هذا المشكل)، و لكن بالمعنى الذي أننا نعرف الآن و للأبد ما يجب تحقيقه: إنها الحرية. ما ينكشف الآن و هنا، هو أن الإنسان حر في الحق – En Droit، و أن الحرية هي ماهيته. على ضوء هذه الحقيقة اذن يفهم ماضي التاريخ البشري، و كذلك خاتمته التي تأتي بها الثورة، و كذلك تاريخ المستقبل يعرف في اتجاهه نحو الحق. حدث الثورة ليس بكل بساطة حدثاً من بين أحداث أخرى في التاريخ. إنه حدث التاريخ الذي به يكف هذا التاريخ على السير بعمي و لكنه يصير تاريخ الإنسان و هو يعي نفسه، التاريخ و قد أضحى له معنى. الحقيقة التي تكشفها لنا كينونة الإنسان بما هو عقل-حرية هي غير قابلة للتجاوز: إنها تؤسس وجود الإنسان للآبد ( لكل تاريخ إنساني ). الإنسان حر و يعي أنه حر. هذه الحقيقة لا يمكن تنسيبها أبداً، كما لو أنها كانت مجرد حقيقة ظهرت في التاريخ، إنها مرتبطة بمفهوم الإنسان نفسه، و بمفهوم التاريخ الإنساني. إن تنسيب هذه الفكرة بغرض مقابلتها مع أخرى ( قد تكون أكثر مطابقة للزمان الذي نعيش فيه)، أو بغرض تجاوزها، سيكون بمثابة عودة لنقطة قد تم الوصول إليها، لأن الإنسان لا يمكن له أن يتخلى عن حريته دون أن يدمر نفسه.

ليكن … و لكن عدة ميتافيزيقات كانت متوافقة مع هذه النظرة للتاريخ، و ليس فقط ميتافيزيقا هيغل. فلماذا لا أكتفي بهذه فقط؟ يمكن لي ذلك طبعاً، شريطة أن لا أكترث بنفسي ككائن يموت و يفنى. إن المستقبل كتتال للأحداث هو إلى حد بعيد غير قابل للتنبؤ. و لكن ليس باطلاق. سأموت. فموتي هو حدث محتم، بالرغم من أنه آت. يمكن لي إذن أن أهتم بموتي بالقدر نفسه الذي أهتم بحياتي.

منه اذن، سيكون من الأنسب لي، كإنسان يعيش حياته أن أتفلسف في إطار الأفق المحتم لحياتي_ ألا و هو الموت. الموت ليس من الضرورة في شيء، و ضد هذا القول الأخير هو أيضا ليس من العبث في شيء، لأن الموت يدخل في باب المصير لا في باب الضرورة. و هذا ما يفيد أن مشكلنا هنا سيطرح على هذا النحو: كيف سنفكر في الزمان اذا كانت الحياة الإنسانية متوقفة على شيء خارج على السيطرة تماما و هو الموت ؟ أو بتعبير آخر: إذا كان للإنسان _ أو للذات الإنسانية_ خارج مطلق، و الذي هو الموت: كيف سنفكر في الزمان هنا إذا كان يعني المصير ؟
لنكرر القول ثانية: للفيلسوف كامل الحق في عدم الاكتراث بنفسه ككائن يموت ( و لكن هل هو صادق في عدم اكتراثه هذا ؟ أ ليس لا يكترث بموته لأنه يعتقد جازما في خلاصه، مادام سيظل حيا في الذاكرة الإجتماعية؟). يمكن له في الحالة هذه أن يشيد ميتافيزيقا. و ستكون ميتافيزيقا ممكنة. إلا أنها و بكل بساطة لن يكون لها أي معنى واقعي بالنسبة لنا. إذا نحن اعتبرنا ميتافيزيقات الموت، فثمة منها التي لا تعني فيها الموت عدم-حياة. يمكن لها أن تكون ميتافيزيقات متسقة لا متهافتة. و بهذا بل و بهذا فقط، ستكون ميتافيزيقات ممكنة. إلا أنها أيضا ستكون خالية من أي معنى واقعي بالنسبة لنا. لا يمكن لنا أبدا الاعتقاد فيها. و دون اعتقاد، كل فلسفة تظل فلسفة الآخرين و فقط. يمكن لنا أن نعجب بالقصور التي شيدها الآخرون، إلا أنه لا يمكن لنا أن نسكن إلا البيت الخاص بنا. بصفة عامة، نحن لا ننكر امكانية ميتافيزيقا للأفضل، أو عدة ميتافيزيقات للأفضل، أو ميتافيزيقات بينهما: إلا أنه و بكل بساطة، الميتافيزيقا الخاصة بنا هي ميتافيزيقا الأفظع. ففي داخلها فقط نجد حساسيتنا و يجد عقلنا (الذي نستعمله بشكل حر و فردي اتباعا لدرس مونتينه) ظالته. ميتافيزيقا الأفظع لا تفيد بأي حال من الأحوال إستحالة السعادة أو الفرح. لأن الفرح يمكن له أن يكون جوابا على الوضع الإنساني منظورا إليه من زاوية الأفظع: ليس طبعا أي فرح، و لكنه الفرح التراجيدي_ فرح البطل. هذا هو ما نطلبه لنفسنا و لأولئك الذين هم على مقربة منا.
_____________________________________________________________________
مرجع المقالة:
Marcel Conche. Temps et destin. Puf Perspectives Critiques. Avant-propos.

Comments

comments

إرسال التعليق